* السيد محمد حسين فضل الله
(وكَذلكَ جَعلناكم أمّةً وسطاً لِتكُونوا شُهداءَ على النّاسِ ويكونَ الرسولُ عليكُم شهيداً) ]البقرة/ 143[.
في هذه الآية حديث عن الأمة المسلمة بأنها "وسط" فيما جعله الله للمسلمين من موقع قيادي في الحياة، وانها شاهدة على الناس، وحديث عن الرسول بأنه شاهد على الأمة.. فكيف نفهم هذه "الوسطية" وهذه الشهادة.
وقد جرى بعض المفسرين في تفسير هذه الكلمة من المعنى اللغوي فأخذوا منه معنى العدل والتوازن على أساس ما تمثله الشريعة الاسلامية من الوسطية بين الاتجاه الروحي المتطرف الذي يمثله النصارى وبين الاتجاه المادي المتطرف الذي يمثله المشركون واليهود لأن الاسلام يأخذ من الروح جانباً ومن المادة جانباً لتكون الحياة _كما خلقها الله_ نتيجة التزاوج بين الروح والمادة، وتتمثل في التوازن بين الاتجاه الجماعي المتطرف الذي يلغي دور الفرد والاتجاه الفردي المطلق الذي يلغي دور المجتمع في الحياة، فأعطى للفرد دوره فيما يحقق ذاته دون أن يغمط حق الجماعة في نطاق قضاياها العامة، وأعطى للجماعة دورها فيما لا يلغي للفرد نوازعه الذاتية الطبيعة. ويمتد الخط الوسطي الى التوازن بين الدنيا والآخرة فللمسلم أن يقبل على الدنيا ويستمتع بطيباتها من دون أن يسيء الى خط الآخرة في السير مع شريعة الله فيما يفعل وفيما يترك، وله أن يستغرق في الآخرة بما لا يمنعه من بناء الحياة والاندفاع معها على الأسس التي يريدها الله.
وفي ضوء ذلك يمكن للأمة أن تؤدي دور الشهادة على الناس باعتبارها تقف في نقطة التوازن التي ترجع إليها بقية الأطراف، كما يكون النبي شهيداً على الأمة لأنه المثال الأكمل الذي يوزن به حال الأجاد من الأمة..
ويعلّق صاحب تفسير الميزان على هذا التفسير للآية بأن هذا المعنى في نفسه صحيح ولا يخلو من دقة إلا انه غير منطبق على لفظ الآية فان كون الأمة وسطاً إنما يصحح كونها مرجعاً يرجع إليه الطرفان وميزاناً يوزن به الجانبان لا كونها شاهدة تشهد على الطرفين أو تشاهد الطرفين فلا تناسب بين الوسطية بذاك المعنى والشهادة وهو ظاهر على انه لا وجه حينئذ للتعرض بكون رسول الله شهيداً على الأمة، إذ لا يترتب شهادة الرسول على الأمة على جعل الأمة وسطاً كما يترتب الغاية على المغيّ والغرض على ذيه.
ونحن نرى أن هذه الآيات تتحرك في نطاق الإيحاء للمسلمين بأصالة موقعهم في الحياة من خلال الدور الذي أعدّه الله لهم في قيادة البشرية إلى الأهداف الكبيرة التي تتمثل في الاسلام، الأمر الذي يجعلهم يتحركون في الحياة من هذا الموقع ليكونوا شهداء على الناس في أفكارهم وأعمالهم باعتبار أنهم يدخلون في ضمن مسؤوليتهم، كما كان الرسول شهيداً على المسلمين من خلال مسؤوليته الرسالية عنهم فيما بلغهم أيّاه وفيما أرشدهم إليه.. وفي هذا الجو لا نجد للوسطية معنى فيما حاوله هؤلاء المفسرون من الحديث عن التوازن الفكري والتشريعي في المواجهة الاسلامية للحياة، لأن القضية ليست هي قضية المضمون الاسلامي في صياغة الشخصية للانسان المسلم، بل هي قضية الإيحاء للمسلمين بأن عليهم أن لا يستسلموا للآخرين في الحصول على الثقة بالتشريع وبالمسار العملي، لأنهم لا يمثلون التبعية للآخرين، في مواقعهم بل القضية هي أن الآخرين يدخلون في نطاق مسؤوليتهم باعتبار انهم يحملون الرسالة القائدة، والدور القائد في التبليغ والتنفيذ.. كما كان الرسول بالنسبة اليهم فيما يبلغه وفيما يهدي إليه..
ولعل طبيعة الشهادة على الآخرين أمام الله تقتضي أن يكون الشاهد في الموقع الأفضل من حيث الدور الذي أوكل إليه، ومن حيث السلوك الذي سار فيه كما هو الحال في الانبياء بالنسبة الى أممهم... وهذا ما يؤكد المعنى الذي ألمحنا إليه... وربما يؤكد ذلك ويوضحه ما ورد في الآية الكريمة.
(يا أيُّها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربّكم وافعلوا الخيرَ لعلكم تفلحون وجاهدوا في اللهِ حقّ جهادهِ هُوَ اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملّة أبيكم إبراهيمَ هُوَ سمّاكُم المسلمين من قبلُ ليكونَ الرسولُ شهيداً عليكم وتكونوا شُهداء على النّاسِ فأقيموا الصّلاة وآتوا الزكاة واعتصموا بالله هو مَولاكُم فَنِعمَ المولى ونعمَ النصير) (الحج/ 78).
فإننا نلاحظ تفريع شهادة الرسول عليهم وشهادتهم على الناس على اجتباء الله لهم وانضباطهم على الخط وقيامهم بالدور الموكل اليهم في العمل لأنفسهم وللأخرين.. أمّا الحديث عن التوازن في الاسلام فهو حقّ ولكن ذلك لا يعني أن الآية تسير في هذا الاتجاه في مضمونها الفكري.
كيف نفهم الشهادة على الناس؟
أمّا الشهادة.. فقد ذكر لها عدة معان "منها" ان المعنى لتشهدوا على الناس باعمالهم التي خالفوا فيها الحق في الدنيا وفي الآخرة. كما قال "وجيء بالنّبيينَ والشهداءِ" وقال "ويومَ يَقومُ الأشهاد".
وقد أثار المفسرون اعتراضا في هذا المجال وخلاصته ان الشهادة تفرض الموقع المتميز للشاهد على المشهود عليه، ونحن نعلم أن الأمة تجمع في جماعتها المطيع والعاصي والجاهل والعالم فكيف يمكن أن يكون الجميع شهوداً في موقع الشهادة والجواب ان الاسلوب القرآني قد جرى على الحديث عن البعض بصفة الكل باعتبار اشتمال الكل عليه، تماماً كما قد حدثنا عن بني اسرائيل مع أن الصفات التي ذكرها كانت صفات البعض... وعلى هذا فان كون الأمة شاهدة يتحرك في نطاق وجود العناصر الكثيرة في داخلها ممن يصلحون لمثل هذا الموقع الكبير وهم الطليعة الواعية المؤمنة التقية المنضبطة التي تفهم الاسلام حق الفهم وتعيه حق الوعي وتمارسه حق الممارسة وتحمله بروح رسولية رائدة.
--------------------------------
المصدر: كتاب من وحي القرآن/